مما يمكن أن يقع تحت ملاحظة كل أحد
أن الأفراد يتفاوتون في مقدار فعاليتهم أي في الاستفادة من الوسائل المتاحة لهم.
فقد نرى فرداً مع أن وسائله وإمكاناته مِثل فرد آخر
إلا أن أحدهما نجده متفوقاً في الاستفادة من الوسائل المتاحة له.
سواء في الاستفادة من وقته، أو ماله بل حتى من قلمه الذي يكتب به
ومن حذائه الذي يلبسه، ومن الحقيبة التي يحملها، سواء كان ذلك في اختيار النموذج الجميل أو في طريقة الاستعمال والصيانة
وما إلى ذلك من جوانب متعددة يمكن أن نرى فيها أقل قدر ممكن من التبديد وأكثر قدر من النتائج.
والميزة بين الفعال واللافعال: هو ما بين الشخصين من فرق في التبديد، أو التحصيل للنتائج الجيدة سواء منها المادية أو المعنوية.
فالساعة من الوقت بالنسبة للإنسان الفعال لها قيمتها حتى إن الساعة التي يظن أنَّه لا يمكن استخدامها في شيء، فإن الإنسان الفعال يستخدمها في شيء نافع. فالزمن زمن بالنسبة لكل إنسان. ولكن بالنسبة للإنسان الفعال زمن تتولد فيه حقيقة من حقائق الحياة، ولحظات تنبض بالحيوية، لا لحظات خامدة ميتة، لهذا مما يَشُقُّ على الإنسان أن يسأل يوم القيامة (عَنْ عُمره فيم أفْناهُ؟).
وهكذا شأن الإنسان الفعال في المال
والميزة بين الفعال واللافعال: هو ما بين الشخصين من فرق في التبديد، أو التحصيل للنتائج الجيدة سواء منها المادية أو المعنوية.
فالساعة من الوقت بالنسبة للإنسان الفعال لها قيمتها حتى إن الساعة التي يظن أنَّه لا يمكن استخدامها في شيء، فإن الإنسان الفعال يستخدمها في شيء نافع. فالزمن زمن بالنسبة لكل إنسان. ولكن بالنسبة للإنسان الفعال زمن تتولد فيه حقيقة من حقائق الحياة، ولحظات تنبض بالحيوية، لا لحظات خامدة ميتة، لهذا مما يَشُقُّ على الإنسان أن يسأل يوم القيامة (عَنْ عُمره فيم أفْناهُ؟).
وهكذا شأن الإنسان الفعال في المال
فكمية من النقد في يد الإنسان الفعال يمكن أن تقضي حاجات أساسية وتعطي أثراً
بينما يظل النقد في يد الكَل كمَّاً مهملاً لا يقضي حاجة، ولا يعطي ثمرة
فالنقود في يده إما خامدة ساكنة وإما بائرة خاسرة. ومن هنا نعلم أن المال ليس المصدر لفعالية الإنسان
ولكن الإنسان الفعال هو الذي يجعل المال فعالاً. ومن الخطأ أن نفهم القضية على غير ذلك فنكون بذلك سترنا مرض التخلُّف الذي عند الإنسان بستار الفقر، بينما المشكلة (مشكلة تخلف الإنسان أنموذجا)
سواء كان غنياً أو فقيراً، وليست مشكلة غنى أو فقر
ولهذا علق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَّالية المال بفعالية الرجل حيث قال: «نِعمَ المالُ الصَّالحُ للمرءِ الصَّالح».
فستستطيع أن تعرف من خلال رؤيتك لقطعة الأرض التي يمتلكها إنسان ما
فستستطيع أن تعرف من خلال رؤيتك لقطعة الأرض التي يمتلكها إنسان ما
فعَّالية ذلك الإنسان وعدم فعاليته، حيث تكون أرض الإنسان الفعال عليها نضارة الحياة بخضرتها وتنسيقها وتربيتها
كما يمكن أن ترى أرض الإنسان الكَلّ أرضاً مًواتاً لا تنبض بحياة ولا تشاهد فيها نظاماً، كما لا يُحصَّل منها ثمراً
فالفعالية إلي أي مكان توجَّهت تأتي بالخير، وإذا دخلت الفعالية في الإنسان فلا تدع شيئاً مما يتصل به إلا وتسري فيه..
كما لاحظنا الفعالية في الفرد كذلك يمكن ملاحظتها في مستوى الأسرة: كأن تكون أسرتان وسائلهما متساوية في الدخل وفي عدد الأشخاص. وقد تكونان في الحي نفسه، والعمل نفسه..
كما لاحظنا الفعالية في الفرد كذلك يمكن ملاحظتها في مستوى الأسرة: كأن تكون أسرتان وسائلهما متساوية في الدخل وفي عدد الأشخاص. وقد تكونان في الحي نفسه، والعمل نفسه..
الخ ومع ذلك تتفاوتان جداً في حياتهما الداخلية ونظام اقتصادهما، والنواحي التي تعطيان لها الأولوية في إنفاقهما
فقد تجد عند إحداهما حُسنَ الترتيب في مسكنها وجودة الغذاء في مأكلها، وحُسنَ العشرة في معاملتهما مسكنها وجودة الغذاء في مأكلها، وحُسنَ العشرة في معاملتها مع من تختلط بهم، بينما تجد الأخرى عكس ذلك؛ مع ملاحظة إمكان اختلاف المستويات بالنسبة لمجتمعين مختلفين كأن يكون الفعال في مجتمع ما مساوياً لما يعتبر كلاً في مجتمع آخر..
وفعالية الأسرة وأمرها بالعدل، يظهر في سلوك أطفال الأسرة وأسلوب حياتهم في ملابسهم، وأسلوب حديثهم، ولطف معشرهم، وحسن خلطتهم واعتدالهم في مشيهم. وإنَّ وصايا لقمان لابنه تتحول إلى حقيقة واقعة في الأسرة الفعالة (الآمرة بالعدل)
وفعالية الأسرة وأمرها بالعدل، يظهر في سلوك أطفال الأسرة وأسلوب حياتهم في ملابسهم، وأسلوب حديثهم، ولطف معشرهم، وحسن خلطتهم واعتدالهم في مشيهم. وإنَّ وصايا لقمان لابنه تتحول إلى حقيقة واقعة في الأسرة الفعالة (الآمرة بالعدل)
لأن هناك من أساليب العطاء أسلوباً يوحي للطفل بتمثيل السلوك والحرص عليه. فتبذل الأسرة كل جهد في تحقيق وصايا لقمان:
(يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لقمان:17 - 19
فإن تحويل الطفل إلى ممثَّل لهذه الحقائق يحتاج إلى بذل جهود لا تُحصى
(يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لقمان:17 - 19
فإن تحويل الطفل إلى ممثَّل لهذه الحقائق يحتاج إلى بذل جهود لا تُحصى
وهذا يختلف طبعاً عن تعليمه ألفاظ هذه الآيات. إذ كل جهد من الأب والأم والإخوة والجيران
يساهم في جعل هذه الأمور حية في أعماق الطفل أو ترك أعماقه خاوية من كل معنى.
من عادة الإنسان غالباً أن يتصوَّر استمرار الحالة التي هو فيها ونسيان الحالة الماضية
من عادة الإنسان غالباً أن يتصوَّر استمرار الحالة التي هو فيها ونسيان الحالة الماضية
وهذه الطبيعة الإنسانية متفاوتة الدرجات عند الناس.
ومما يدخل في هذا الموضوع ما يذكره الله تعالى من أن الإنسان (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) الزمر - 7.
ومما يدخل في هذا الموضوع ما يذكره الله تعالى من أن الإنسان (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) الزمر - 7.
وتفاوتُ الناس في هذا كتفاوتهم في الإيمان، إلا أن هذا الجانب الاجتماعي والتاريخي الذي يتجول ببطء سواء في تكونه
أو في زواله ليس من السهل أن ينتبَّه إليه كل أحد، وهذا ما كان يجعل رسول الله يُنَبِّه إلى تحول الحال في الأجيال المتتابعة
وعلى هذا قوله: «خير القرون قَرْني ثم الذين يلونهم..». فهذا الحديث يشير إلى جزء من مرحلة. وهو كيفية التحول من الفعالية إلى العجز على مر القرون ولكن هذا جانب من عملية دورة المجتمع لا يفهم منه قط أن يستمر هذا الانحدار كما جاء في الحديث الآخر حين «سُئل صلى الله عليه وسلم أَوَ لَيسَ بعدَ ذاكَ الشَّرِّ مِن خير؟ فقال : نعم .. »
وهذا دليل خضوع التحول للسنن ولتدخل جهد البشر في تعجيله أو منعه سلباً وإيجاباً.
الخلاصة: حين يفقد الإنسان شيئاً يستحقّ أن يبذل نفسه من أجله فقدْ فقَدَ أساس الفعالية وغرق في أساس الكَلالة والوهن،
الخلاصة: حين يفقد الإنسان شيئاً يستحقّ أن يبذل نفسه من أجله فقدْ فقَدَ أساس الفعالية وغرق في أساس الكَلالة والوهن،
سواء كان هذا الذي يبذل نفسه من أجله حقيقة يستحق ذلك أو لا يستحق، إذ المهم أن تحدث لديه القناعة في أنه يستحق.
وهذه الخلاصة تبين الحالة النفسية والفكرية التي يعيش عليها الكَلّ الذي (أينما توجِّهه لا يأت بخير)
وهذه الخلاصة تبين الحالة النفسية والفكرية التي يعيش عليها الكَلّ الذي (أينما توجِّهه لا يأت بخير)
فلا ينتج على أي صعيد تضعه فيه، لا لأن الخير غير موجود، ولكن وضعه هو الذي يعجزه أن يأتي بأيِّ خير.
* بيان الفعالية في مختلف المستويات:
يساهم في فعالية الفرد جانبان:
1 - جانب ما يبذله الفرد من جهد شخصي في جعل سلوكه مطابقاً مع مُثُل المجتمع الذي يعيش فيه ويكون ذلك بالضغط على نفسه في ترك رغائبه الشخصية التي لا تتلاءم مع مطالب المجتمع، ويحمل نفسه على الاستجابة لرغائب المجتمع ومطالبه.
2 - وجانب ما يبذله المجتمع من جهد في حمل الفرد على اتباع المَثَل الأعلى الذي قَبِله المجتمع، وينشِّئ أفراده عليه بممارسة مختلف وسائل الضغط والتي منها المادي: كالعقوبات والغرامات، ومنها المعنوي: كالاحتقار والنبذ والإشعار بالضَّعة والهوان، وبممارسة وسائل الترغيب المادية منها: كالمكافآت المادية، أو المعنوية منها: كالاحترام والتقدير الذي يوليه المجتمع للأفراد الذين يُضحُّون من أجل مُثُل المجتمع العليا. وعلى قدر حرص الفرد والمجتمع على أداء كل منهما واجبه يساهم ذلك في فعالية الفرد والمجتمع. كما أن التخلف عن أداء الواجب يؤدي إلى حالة الكَلالة بالنسبة للمستويين الفرد والمجتمع.
فإذا فهمنا أثر المجتمع في الفعَّالية والكَلالة يمكن أن نتوسع في فهم المجتمع وأثره إلى أن تبلغ مستوى العالمية. ففي العالم الحديث، الذي صار الناس فيه يتحدث بعضهم إلى بعض بسرعة الضوء، ويتزاورون فيه بسرعة الصوت؛ أدى كل ذلك إلى وضعٍ جعل كثيراً من مشاكل العالم تَعُمُّ كل أفراد الجنس البشري ويحملهم على الاهتمام بمصير العالم كله. فإذا أدركنا هذه الحالة نستطيع أن نتصور فَهمَ الفعَّالية في مستوى العالم، وأن ندرك قسطاً كبيراً من السلبية واللافعالية متمثلة في العجز الذي تبديه المؤتمرات العالمية والمجتمعات الدولية حيث تظهر عجزاً كبيراً في حل مشاكل العالم..
ومن مزايا هذا العصر طرح المشاكل في المستوى العالمي. (وإن كان من أمراض هذا العصر، العجز المريع في حل أي مشكلة منها). فإذا كنا نعترف بالتقدم الذي أحرزه العلم في رفع المشاكل إلى العالمية، فإننا نًدِينُ سلبية العالم في حل هذه المشاكل وضعف تكيفه مع الأوضاع.
حقائق مهمة:
1 - عرفنا الفعالية فيما سبق بأنها استخلاص أحسن النتائج من الوسائل المتاحة للإنسان، وهذه الحالة نتيجة. والشروط: هي الأمور التي إذا توافرت لدى الإنسان، حملته على أن يقوم بنشاط فكري وعملي، أي تحمله على أن يستخدم عقله، وهو وسيلة من وسائله في تأمل أحداث هذا الكون، وهذا الكون وأحداثه وسيلة أخرى أمام عقله لاستخراج سننها، والاستخدام الصحيح لهاتين الوسيلتين، هو الذي يعطي الفعالية في النهاية. وهاتان الوسيلتان هما الآفاق (أحداث الكون) والنفس (القوى الواعية في الإنسان) وهما المذكورتان في قوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فصلت - 53.
2 - من الحقائق الأولية، التي تساعد على توجيه الإنسان، تقريب المواضيع التي لم تخضع بعد سنن تسخيرها للإنسان، بمقارنتها بأمثلة خضعت سنن تسخيرها للإنسان.
3 - وبناء على ما سبق، نريد أن نظهر حقيقة من الحقائق تتعلق بالإنسان، فالإنسان في أصله أبدعه الله وسوَّاه تسوية عجيبة، قابلة للتزكية والتدسية، وقابلة لأن يكون صاحبها في (أحسن تقويم)، ولأن يرتَدَّ إلى (أسفل سافلين) وقابلة لأن يكون (كَلاً) أينما توجَّه لا يأت بخير. أو أن يكون (آمراً بالعدل) وهو على صراط مستقيم. فهذا الاستعداد المزدوج، وهذه القدرة المودَعة في الإنسان، هو ما يسميه علماء الكلام (ما هو كائن بالقوة)، فإذا تحول هذا الشيء إلى حقيقة واقعة: فصار الإنسان على أحسن تقويم، آمراً بالعدل، ذا نفسٍ ارتفعت بالتزكية؛ أو عكس ذلك، فهذا ما يطلق عليه عندهم (ما هو حاصل بالفعل). ويضربون لذلك مثلا فيقولون عن الإنسان قبل أن يتعلم القراءة والكتابة إنه كاتب وقارئ بالقوة، لأن عنده استعدادً لأن يصير قارئاً وكاتباً بالتربية والتمرين. فإذا ما حول المربِّي ما هو موجود عند الإنسان بالقوة إلى ما هو كائن بالفعل، أي بأن جعله كاتباً وقارئاً، يكون حوَّل القوة إلى الفعل. فهذا الاستعداد بالقوة وتحويله إلى كائن بالفعل باستخدام الوسائل التربوية، هو مما يقع تحت تجاربنا التي نعيشها بالنسبة للقراءة والكتابة. أما مقارنة الفعالية بالكتابة مع تشابه الموضوعين فلم يبلغ فهمُ مشابهتهما لبعضهما درجة وافية، بل لا يزال محاطاً بالغموض والشكوك. ويرى أكثر المسلمين مرجع تكوين الفعالية إلى القضاء والقدر الذي لا يدخل فيه جهد الإنسان، بينما يرون جعل الإنسان الفرد أو المجتمع قارئاً وكاتباً مما يدخل فيه من جهد الإنسان.
4 - وذلك لأنهم يرون القضاء والقدر في مستويين. يرون القضاء والقدر في الأمور التي لا يعلم الناس سننها أكثر بروزاً من الأمور التي تمكَّنوا من السيطرة على سننها. إلا أن تعلُّق القضاء والقدر في الأمور التي يعلم الناس سننها والتي لا يعلمون سننها سواء. فالاستعداد الموجود عند الإنسان لأن يصير قارئاً وكاتباً، حين يتحول إلى قارئ وكاتب بالفعل، لا يكون حدث ذلك خارج القضاء والقدر. وكذلك تحويل الاستعداد الموجود عند الإنسان لأن يصير كَلاً أو آمراً بالعدل لا يكون خارجاً عن القضاء والقدر، بل هو مثل القراءة والكتابة، ولكن السنن التي تجعل الإنسان كَلاً أو عدلاً لا تزال غامضة.
ولا يخطرنَّ في بال أحد، أن فهم الموضوع بهذا الشكل يُبث إبطال جهد الإنسان في بناء الفرد كما سيأتي بيان ذلك..
قياس الفاعلية يتم بالنظر إلى جانبين في حياة المرء أو الأمة على حد سواء:
1 - المُثُل العليا، ومقدار موافقة هذه المثل لما يَليق بالإنسان.
2 - مقدار التطبيق الذي يمارسه الفرد والمجتمع ليوافق سلوكه مع تلك المُثُل.
وفي المصطلح الإسلامي يطلَق على الأول الواجبات والمحرمات المنبعثة عن المثل الأعلى (ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم) النحل-60
ويطلق على الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات بمختلف الوسائل..
ولعلاقة المثل الأعلى بالتطبيق أربعة أوجه:
1 - مثل أعلى صحيح زائد طريقة صحيحة لبناء الإنسان وفق المثل الأعلى: يساوي حياة صحيحة راقية ربَّانية (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) النحل-97.
2 - مثل أعلى صحيح زائد طريقة خاطئة للبناء: يساوي كما هو حال العالم الإسلامي الآن تخلف وتناقض وعجز..
3 - مثل خاطئ زائد طريقة صحيحة للبناء ولو باعتبار ما: يساوي حضارة مثل الحضارة الحديثة؛ عنصريَّي، حروب إبادة، تسخير الأشياء لغير صالح الإنسانية..
4 - مثل أعلى خاطئ زائد طريقة خاطئة: يساوي لا دنيا ولا آخرة. (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) الحج - 11 .
مع ملاحظة أن الخطأ والصواب في المثل الأعلى وفي التطبيق، يتفاوت تفاوتاً كلياً أو جزئياً في مقدار الخطأ والصواب..
- وقاعدة أخرى يقررها القرآن ولها أهميتها الخاصة: وهي أن الكون مسخر للإنسان بشرط أن يعرف سننه. والإيمان وحده بواضع السنن لا يؤدي إلى التسخير، مع تذكُّر أن الاستمتاع بهذا التسخير لا يتم إلا بالإيمان (بَلْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) سبأ - 8. وشرط التسخير مقرر في سورة الإسراء بأن من يريد العاجلة فقط (النجاح في الدنيا) يعجل الله له ما يشاء حسب اتِّباعه لسنن الكون، وكذلك من أراد الآخرة وسعى لها سعيها (على سنَنِها) كان سعيه مشكوراً. ثم يقول تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) الإسراء - 20 .
ولإلقاء أضواء على بعض الأفكار الهامة التي تساهم في إعطاء الفعالية للإنسان نذكُر بعضاً منها على سبيل المثال:
لقد مرَّ زمن لم يكن الناس يفطنون فيه إلى أن أحداث التاريخ تخضع لتوجيه الإنسان، بل كانوا يرون أن هذه الأحداث لا دخل للبشر في حدوثها، وإنما يسيَّرها مسيِّر السَّموات والأرض. وهذه هي النظرية الأولى في التاريخ، وهي النظرية القدريَّة التي لا ترى أثراً لجهد البشر في صنع التاريخ..
ولكن استخدام القوى الواعية للبشر في تأمُّل أحداث الكون، أبرزَ شيئاً فشيئاً إمكانية تدخُّل جهد البشر في صنع الأحداث وتسريعها أو إيقافها، بعد أن عرفوا أسبابها. وكان إدراك البشر لهذا الجانب بطيئاً، ولم يتوضح مرة واحدة، ولم ينتشر سريعاً بين الناس، كما لا يزال معظم البشر ينظرون إليه بشيء من الغموض وعدم الوضوح..
ومن القواعد المقررة التي لا يمكن أن يلاحظها كل واحد:
أنه إذا أردت إبطال جهد الإنسان وإيقافه في أي عمل، ما عليك إلا أن تقنعه بعدم جدوى هذا العمل، فبمجرد أن يقتنع الإنسان بعدم جدوى عمله يكِفُّ عن النشاط ويتوقَّف عن العمل.
يشبه ارتباط القضاء والقدر بحياة الانسان بالضغط على الزناد حيث يفلت من يد الإنسان التحكُّم بالقذيفة بعد الضغط على الزِّناد. ولكن ليس معنى هذا أنه لم يكن له اختيار في الضغط على الزناد. فمن هذا الجانب، يمكن أن يُنظر إلى التاريخ على أساس حتمي وقدري وهذا النظر يُغفِل تدخُّل جهد الإنسان في أحداث هذه النتائج الحتمية.
والخلاصة: إن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم. ولكن حدوث النتائج حتْم. فبهذا الشكل صار الإنسان مسيطراً على الحتم، كما أن الإنسان حين يَغفُل عن سنن الله، فإن سنن الله لا تغفل أن تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل. وحينئذ لن يتمكن الإنسان أن يرى للتاريخ أسباباً، وإنما يرى أحداثاً حتميَّة، لا دخل لجهد الإنسان فيها. فمن هذه النظرة تنشأ القدريَّة..
يقول سيد قطب في كتابه هذا الدين في نفس الموضوع:
« هناك حقيقة أولية عن طبيعة هذا الديِّن وطريقة عمله في حياة البشر . حقيقة أولية بسيطة مع بساطتها كثيراً ما تنسى ، أو لا تدرك ابتداء . فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين : حقيقته الذاتية وواقعه التاريخي ، حاضره ومستقبله كذلك .
إن البعض ينتظر من هذا الدين ما دام منزلاً من عند الله ، أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ! ودون أي اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية ، ولواقعهم المادي في أي مرحلة من مراحل نموِّهم ، وفي أية بيئة من بيئاتهم .
وحين لا يرون أنَّه يعمل بهذه الطريقة ، وحين يرون أن الطَّاقة البشرية المحدودة ، والواقع المادي للحياة الإنسانية ، يتفاعلان معه فيتأثران به - في فترات - تأثراً واضحاً ، على حين أنهما في فترات أخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه …. وحين يرون هذا فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقَّعونها ، أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني وواقعيته ، أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً .
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كُّلها من خطأ واحد أساسي : هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته أو نسيان هذه الحقيقة البسيطة الأولية » ..
وقال في مكان آخر مبيناً أهمية هذه الحقيقة :
« والمعرفة بهذه الحقيقة ذات أهمية قصوى فهي تعطي البشرية أملاً قوياً …. فهي صورة من شأنها أن تزيد من ثقة البشرية بنفسها …. أن تبلغ ذلك المستوى الإنساني الرفيع الذي بلغته مرة في تاريخها فهي لم تبلغه بمعجزة خارقة لا تكرر. وإنما بَلغَته في ظلِّ منهج من طبيعته أن يتحقق بالجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية».
ولما خفيت هذه الحقيقة ، وهي (دور الإنسان في صناعة التاريخ) في رسالات السماء كما سبق أن ذكره ذلك الكاتب بمرارة وأسى. فعند عدم إدراك هذه الحقيقة البسيطة الأولية أو نسيانها عند من يؤمنون برسالات السماء، ضلَّ من ضلّ لأنه مع تقدم العلوم ظهرت هذه الحقيقة - حقيقة (تدخل الجهد البشري في صناعة التاريخ) - لقوم حدث لهم ردُّ فعل نفوري من المتديِّنين، فكتبوا في هذا الموضوع وكأنهم كشفوا شيئاً جديداً امتازوا به عن سائر الخلق وسمُّوا هذه النظرية بأسماء مختلفة كالفلسفة الوضعية، والمادية الجدلية، والمادية التاريخية، والديالكتيكية، ..
كما هاجموا المتديِّنين ورسالات السماء وكل النظم المثالية، واعتبروها معطلة لأثر جهد الإنسان في أحداث التاريخ. ولقد ابدؤوا في هذا وأعادوا كثيراً. وعظمت البليَّة بذلك فظن كثير من الناس الذين لم يدركوا هذه الحقيقة في طبيعة الدِّين أو نسوها، أن العلم والوعي وتقدير جهد الإنسان ومكانته في صنع الأحداث، كل ذلك مخصوص بأولئك الذين نظروا إلى التاريخ النظرة المادية.
وفهم أحداث التاريخ بهذا الشكل الذي يتدخل فيه جهد البشر، يساهم مساهمة كبيرة في إيجاد شرط أساسي من شروط الفعالية؛ وذلك لأن هذه النظرة لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل تتدخل في تكييف سلوك الإنسان أمام الأحداث وتضع الإنسان في المكان المناسب له في هذا الكون. وتشعره بكرامته حيث سخر الله له هذا الكون.
ويقول جلال الدِّين الرومي في هذا المقام مخاطباً الإنسان : ( إن خدمتك مفروضة على جميع الكائنات . هل يجرؤ أحد أن يساوم هذا الإنسان الغالي ويُنِّي نفسه بشرائه : يا مَن مِنْ عبيدة العقل والحكمة والمقدرة لا محلَّ للمساومة فقد تمت الصفقة : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ) التوبة - 111 فإن الشيء لا يباع مرتين ) .
إن مِن شروط الفعالية حدوثَ شعور للإنسان أنه يملك شيئاً أن يقدمه للآخرين ، وهم بحاجة إليه . فحدوث هذا الشعور عنده يكون سبباً لفعاليته ونشاطه . ويمكن أن يتضح ذلك إذا نظرنا إلى العكس : وهو أن الإنسان إذا لم يكن عنده شيء يقدمه للآخرين ، أو على الأقل يُشعره بمساهمته معهم ، يصيبه الانطواء والخمول ، بل قد يبلغ به الأمر إلى درجة أن يفقد كل مبرر لوجوده مما يؤدي إلى الانتحار أحياناً . ويمكن أن يلاحظ ذلك في أدق الأعمال وأيسرها . وكما ذكرنا سابقاً يلاحظ في الإنسان الذي يحسن شيئاً يحتاج إليه الآخرون حيث يُشعره ذلك بقيمته . ويجعله فعالاً في بيانه وتطبيقه . هذا في المستوى الفردي والعمل البسيط ، ويمكن أن يرى ذلك في مستوى المجتمعات والحضارات الكبرى . فإن المسلمين حين انطلقوا بأقصى توتر في الفعالية شهده العالم كانوا يشعرون بأن الله ابتعثهم ليقدموا للعالم حقيقة هذا الدين الذي يكرم الإنسان ويخرجه من ذل العبودية . فكان أصغر جندي في عسكرهم يشعر بهذه المهمة حين كان يقول معبراً عن مهمته بأنه مستنفر لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .
وأيضا هذا يذكرنا بشعور عامل التنظيفات في وكالة ناسا بأهمية عمله بقوله: أنا أرسل الناس إلى الفضاء.
بينما المسلم الآن لا يدرك أنه يملك شيئاً يقدمه للعالم ، أو العالم بحاجة إليه ، ولن يتأتَّى للمسلم هذا الشعور إلا إذا عرف جيداً مشكلات العالم وما يعانيه ، وحقيقة ما يمكن أن يقدمه الإسلام لهذا العالم ..
وحتى العالم الغربي لم تحدث لديه الفعالية ، إلا بعد أن شعر أنه موضع عناية القدر ، وأنه يملك ما لا يملكه أحد من الناس من العلم والفهم للحياة .
إذا توفر إدراك أثر جهد الإنسان والمبرر لأمة من الأمم ، يكون ذلك سبباً في ارتفاع درجة الفعالية التي تشيع في جميع أفراد الأمة من صغيرها إلى كبيرها ، ومن رجالها إلى نسائها ، فإن هذه المفاهيم كالغيث إبَّان الربيع ، يساهم في تحريك النباتات والبراعم في كل مكان ..
من الحقائق الثَّابتة أن الإنسان في حركته ، يسعى لخير يجلبه أو لشر يدفعه . وكلٌّ منهما في درجات متفاوتة : فقد يكون الخير الذي يطلبه أكلة يصيبها أو نصراً كبيراً يحرزه في معركة حاسمة ، أو ( جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتَّقين ) ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذنٌ سمعت . وقد يكون الشر الذي يحذر منه أكلة تفوته أو معركة كبرى يخسرها أو ( ناراً وقودها الناس والحجارة ) ..
وفعالية الإنسان وتوتُّره ، يكونان في أقصى مداهما كلما كان يقينه صادقاً فيما يطلبه ، وكلما كان ما يطلبه عزيزاً ، وما يهرب منه شراً كبيراً ، وهذا ينطبق على كل عمل يقوم به الإنسان من العناية التي يبذلها الطالب في أداء وظيفته المدرسية ، إلى المصابرة والمرابطة في القتال . ولهذا لما سوى الله بين الناس في الرغائب التي يطلبونها والمخاوف التي يهربون منها ميَّز المؤمنين بأن رغائبهم ومخاوفهم تتعلق بأشياء لا يملكها غير المؤمنين . فقال تعالى : ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ) النساء - 104 .
هذا التوازن نادر في المسلمين ، وهذا ما يجعل المسلمين لا فعالية عندهم لأن منهم من لا يشعر بالخطر ، ومنهم من بلغ به الشعور بالخطر إلى درجة اليأس بحيث يظن أنه لم تعد هناك فائدة من الحركة ، كما لا يشعرون بالفرص التي تفوتهم وهم قابعون ينظرون إلى الأحداث بعيون التماسيح الغافية ، كأن الأحداث لا تعنيهم ، وكأن إرادتهم لا صلة لها بتوجيه الأحداث .
لقد أحسن في التعبير عن هذا المعنى مالك الجزائري حين قال :
« إن صنع التاريخ يبدأ من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى الكلمة والواجبات الخاصة بكل يوم بكل ساعة ، بكل لحظة لا في معناها المعقد كما يعقِّده أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة يعطلون بها التاريخ بدعوى أنهم ينتظرون المعجزات والساعات الخطيرة » .
وهذا ما ينبهنا الله تعالى إليه في قوله : ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) يونس - 61 .
تقول الكاتبة بعد أن قدمت لنا هذه الأفكار العميقة والرائعة والتي استطعنا أن نستنبط منها قوانين وسنن نسير على هديها:
(هذه الأفكار التي سجلتها هنا ، تكونت لدي أثناء حياة موجهة مليئة بالخبرات والبحوث ، عشتها مع أخي فسجَّلتها لاعتقادي أن هذه الأفكار تُفيد وتساهم في إنارة الطريق لمستقبل الحركة الإسلامية .
وهنا اقدم شكري وتقديري لأخي ، وأقدم هذه الخبرة التي عشتها وتأثَّرت بها ، وكانت سبباً في تكيُّف حياتي ، وأختار جانياً واحداً من هذه النواحي التي أشعر أنها أثرت في نفسي ، لما أرى له من الأهمية ، وهو الموقف الذي اتخذه أخي بالنسبة لي . والأمل الذي كان يعلقه عليّ في أن أكون مسلمة فعالة . وكان يتخذ لهذا الهدف الذي وضعه في نفسه فيما يتعلق بي وسائل كثيرة وإيحاءات مختلفة أقدرها كل التقدير . إنه كان حين يفكر في عمله ودعوته كان أول ما يرسم وأول ما يخطط دوري ومهمتي في هذه الأعمال وما علي أن أحققه : إنه كان ينظر إلي كأني الشطر الثاني من عمله وهذا ما جعله يصبر سنين عدة يعمل في أن يهيئ ما يؤهل لتلك المهمة .
وأعتبر هذا الأمل الذي كان في نفسه هو نسمة الحياة الأولى التي تنعش كياني حيث لم تكن تهب مثل هذه النسمة فيما أعلم في مجتمعنا على نظيراتي وهذه مشكلة أساسية في مجتمعنا . فمن المعلوم أن هناك مساهمة كبيرة في منجزات الفرد من جراء ما يتوقع الآخرون من هذا الفرد أن ينجزه . فإن هذا الأمل الذي يعلق عليه يكون أكبر عامل ومساهم في تحقيق ذلك . وكم من إمكانات تظل خامدة ميتة حيث لا يعلق أحد عليها أملاً ولا توقعاً فتظل مطمورة في عالم الغيب لا يمر عليها من يقدرها . وليس من السهولة أن تنمو البذور إذا لم يحط بها الدفء وماء الحياة بل اعتقد أن سبب هذه العطالة أو الكلالة (الضعف) التي يعيشها مجتمعنا والتي تبرز كأوضح ما يكون في جانب النساء هو : (الجو الثقافي) الذي يحدد مهمة النساء في حدود معينة بحيث لا يتوقع الأخ أو الأب أو الزوج منها غير تلك المهمة المعينة المحدودة . وأن لا يخطر في بالها هي غير ذلك فكأن وظائفها كلها حصرت واختزلت في إمكانية محددة ، وهذه المهمة المعينة يمكن أن نوجزها في كلمة واحدة هي : (مهمة المحافظة على بقاء النوع لا ترقية النوع).
وأرى من الضروري حتى تعطي هذه الملاحظة ثمرتها أن أفرق بين أمرين حيث إن كثيراً من المسلمين يخلطون بينهما . وحين أقول إن العطالة التي تحيط بمجتمعنا ولا سيما في جانبه النسائي لا أقول : إن الإسلام هو الذي يعطي هذه العطالة أو يسببها . ولكن لا أخشى من صاحب رأي له اعتبار أن ينقض رأيي في أن المسلمين هم الذين يقومون بهذه العطالة بشعور منهم أو دون شعور على مختلف مستوياتهم ، ومن رأى غلواً في كلامي هذا وبخساً لحق المسلمين فإنا هو يعبر بذلك عما في نفسه مما يأمله في أن يكون عليه المسلمون في نظره ، لا ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في الواقع .
هذا وإن كنت أشرت إلى جوانب نقص في المسلمين فإن ما في المسلمين ليس هذا فقط بل إن هذا الجانب من النقص بدأ يدخل في حيزِّ الشعور فصار ذلك باعثاً لأن يراجع بعضهم مواقفه فيتأملها . وهذا أول خطوة في تغيير الإنسان لنظرته وسلوكه . والآن نرى تباشير ذلك في براعم آخذة في النمو والتفتح مما يدل على سريان حياة جديدة . ونرى أيضاً نسمة الحياة في الأمل الذي نعلقه في ناشئتنا المتطلعة إلى حياة أكرم لتضع لنفسها أهدافاً أسمى وتطلعات أقوم متخلصة من أوزار الانحطاط ومتأكدة من ثبات خطواتها في المستقبل .
ولتحقيق هذا المستقبل لا بد من عقبات تبلغ بالقلوب الحناجر ، ولكن الذي يثبت المسلم على ذلك آيات الكتاب الكريم والوعد الحق الذي يدعم المؤمنين والمؤمنات ويبارك سعيهم .
( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى … ) . آل عمران - 194 .
* بيان الفعالية في مختلف المستويات:
يساهم في فعالية الفرد جانبان:
1 - جانب ما يبذله الفرد من جهد شخصي في جعل سلوكه مطابقاً مع مُثُل المجتمع الذي يعيش فيه ويكون ذلك بالضغط على نفسه في ترك رغائبه الشخصية التي لا تتلاءم مع مطالب المجتمع، ويحمل نفسه على الاستجابة لرغائب المجتمع ومطالبه.
2 - وجانب ما يبذله المجتمع من جهد في حمل الفرد على اتباع المَثَل الأعلى الذي قَبِله المجتمع، وينشِّئ أفراده عليه بممارسة مختلف وسائل الضغط والتي منها المادي: كالعقوبات والغرامات، ومنها المعنوي: كالاحتقار والنبذ والإشعار بالضَّعة والهوان، وبممارسة وسائل الترغيب المادية منها: كالمكافآت المادية، أو المعنوية منها: كالاحترام والتقدير الذي يوليه المجتمع للأفراد الذين يُضحُّون من أجل مُثُل المجتمع العليا. وعلى قدر حرص الفرد والمجتمع على أداء كل منهما واجبه يساهم ذلك في فعالية الفرد والمجتمع. كما أن التخلف عن أداء الواجب يؤدي إلى حالة الكَلالة بالنسبة للمستويين الفرد والمجتمع.
فإذا فهمنا أثر المجتمع في الفعَّالية والكَلالة يمكن أن نتوسع في فهم المجتمع وأثره إلى أن تبلغ مستوى العالمية. ففي العالم الحديث، الذي صار الناس فيه يتحدث بعضهم إلى بعض بسرعة الضوء، ويتزاورون فيه بسرعة الصوت؛ أدى كل ذلك إلى وضعٍ جعل كثيراً من مشاكل العالم تَعُمُّ كل أفراد الجنس البشري ويحملهم على الاهتمام بمصير العالم كله. فإذا أدركنا هذه الحالة نستطيع أن نتصور فَهمَ الفعَّالية في مستوى العالم، وأن ندرك قسطاً كبيراً من السلبية واللافعالية متمثلة في العجز الذي تبديه المؤتمرات العالمية والمجتمعات الدولية حيث تظهر عجزاً كبيراً في حل مشاكل العالم..
ومن مزايا هذا العصر طرح المشاكل في المستوى العالمي. (وإن كان من أمراض هذا العصر، العجز المريع في حل أي مشكلة منها). فإذا كنا نعترف بالتقدم الذي أحرزه العلم في رفع المشاكل إلى العالمية، فإننا نًدِينُ سلبية العالم في حل هذه المشاكل وضعف تكيفه مع الأوضاع.
حقائق مهمة:
1 - عرفنا الفعالية فيما سبق بأنها استخلاص أحسن النتائج من الوسائل المتاحة للإنسان، وهذه الحالة نتيجة. والشروط: هي الأمور التي إذا توافرت لدى الإنسان، حملته على أن يقوم بنشاط فكري وعملي، أي تحمله على أن يستخدم عقله، وهو وسيلة من وسائله في تأمل أحداث هذا الكون، وهذا الكون وأحداثه وسيلة أخرى أمام عقله لاستخراج سننها، والاستخدام الصحيح لهاتين الوسيلتين، هو الذي يعطي الفعالية في النهاية. وهاتان الوسيلتان هما الآفاق (أحداث الكون) والنفس (القوى الواعية في الإنسان) وهما المذكورتان في قوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فصلت - 53.
2 - من الحقائق الأولية، التي تساعد على توجيه الإنسان، تقريب المواضيع التي لم تخضع بعد سنن تسخيرها للإنسان، بمقارنتها بأمثلة خضعت سنن تسخيرها للإنسان.
3 - وبناء على ما سبق، نريد أن نظهر حقيقة من الحقائق تتعلق بالإنسان، فالإنسان في أصله أبدعه الله وسوَّاه تسوية عجيبة، قابلة للتزكية والتدسية، وقابلة لأن يكون صاحبها في (أحسن تقويم)، ولأن يرتَدَّ إلى (أسفل سافلين) وقابلة لأن يكون (كَلاً) أينما توجَّه لا يأت بخير. أو أن يكون (آمراً بالعدل) وهو على صراط مستقيم. فهذا الاستعداد المزدوج، وهذه القدرة المودَعة في الإنسان، هو ما يسميه علماء الكلام (ما هو كائن بالقوة)، فإذا تحول هذا الشيء إلى حقيقة واقعة: فصار الإنسان على أحسن تقويم، آمراً بالعدل، ذا نفسٍ ارتفعت بالتزكية؛ أو عكس ذلك، فهذا ما يطلق عليه عندهم (ما هو حاصل بالفعل). ويضربون لذلك مثلا فيقولون عن الإنسان قبل أن يتعلم القراءة والكتابة إنه كاتب وقارئ بالقوة، لأن عنده استعدادً لأن يصير قارئاً وكاتباً بالتربية والتمرين. فإذا ما حول المربِّي ما هو موجود عند الإنسان بالقوة إلى ما هو كائن بالفعل، أي بأن جعله كاتباً وقارئاً، يكون حوَّل القوة إلى الفعل. فهذا الاستعداد بالقوة وتحويله إلى كائن بالفعل باستخدام الوسائل التربوية، هو مما يقع تحت تجاربنا التي نعيشها بالنسبة للقراءة والكتابة. أما مقارنة الفعالية بالكتابة مع تشابه الموضوعين فلم يبلغ فهمُ مشابهتهما لبعضهما درجة وافية، بل لا يزال محاطاً بالغموض والشكوك. ويرى أكثر المسلمين مرجع تكوين الفعالية إلى القضاء والقدر الذي لا يدخل فيه جهد الإنسان، بينما يرون جعل الإنسان الفرد أو المجتمع قارئاً وكاتباً مما يدخل فيه من جهد الإنسان.
4 - وذلك لأنهم يرون القضاء والقدر في مستويين. يرون القضاء والقدر في الأمور التي لا يعلم الناس سننها أكثر بروزاً من الأمور التي تمكَّنوا من السيطرة على سننها. إلا أن تعلُّق القضاء والقدر في الأمور التي يعلم الناس سننها والتي لا يعلمون سننها سواء. فالاستعداد الموجود عند الإنسان لأن يصير قارئاً وكاتباً، حين يتحول إلى قارئ وكاتب بالفعل، لا يكون حدث ذلك خارج القضاء والقدر. وكذلك تحويل الاستعداد الموجود عند الإنسان لأن يصير كَلاً أو آمراً بالعدل لا يكون خارجاً عن القضاء والقدر، بل هو مثل القراءة والكتابة، ولكن السنن التي تجعل الإنسان كَلاً أو عدلاً لا تزال غامضة.
ولا يخطرنَّ في بال أحد، أن فهم الموضوع بهذا الشكل يُبث إبطال جهد الإنسان في بناء الفرد كما سيأتي بيان ذلك..
قياس الفاعلية يتم بالنظر إلى جانبين في حياة المرء أو الأمة على حد سواء:
1 - المُثُل العليا، ومقدار موافقة هذه المثل لما يَليق بالإنسان.
2 - مقدار التطبيق الذي يمارسه الفرد والمجتمع ليوافق سلوكه مع تلك المُثُل.
وفي المصطلح الإسلامي يطلَق على الأول الواجبات والمحرمات المنبعثة عن المثل الأعلى (ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم) النحل-60
ويطلق على الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات بمختلف الوسائل..
ولعلاقة المثل الأعلى بالتطبيق أربعة أوجه:
1 - مثل أعلى صحيح زائد طريقة صحيحة لبناء الإنسان وفق المثل الأعلى: يساوي حياة صحيحة راقية ربَّانية (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) النحل-97.
2 - مثل أعلى صحيح زائد طريقة خاطئة للبناء: يساوي كما هو حال العالم الإسلامي الآن تخلف وتناقض وعجز..
3 - مثل خاطئ زائد طريقة صحيحة للبناء ولو باعتبار ما: يساوي حضارة مثل الحضارة الحديثة؛ عنصريَّي، حروب إبادة، تسخير الأشياء لغير صالح الإنسانية..
4 - مثل أعلى خاطئ زائد طريقة خاطئة: يساوي لا دنيا ولا آخرة. (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) الحج - 11 .
مع ملاحظة أن الخطأ والصواب في المثل الأعلى وفي التطبيق، يتفاوت تفاوتاً كلياً أو جزئياً في مقدار الخطأ والصواب..
- وقاعدة أخرى يقررها القرآن ولها أهميتها الخاصة: وهي أن الكون مسخر للإنسان بشرط أن يعرف سننه. والإيمان وحده بواضع السنن لا يؤدي إلى التسخير، مع تذكُّر أن الاستمتاع بهذا التسخير لا يتم إلا بالإيمان (بَلْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) سبأ - 8. وشرط التسخير مقرر في سورة الإسراء بأن من يريد العاجلة فقط (النجاح في الدنيا) يعجل الله له ما يشاء حسب اتِّباعه لسنن الكون، وكذلك من أراد الآخرة وسعى لها سعيها (على سنَنِها) كان سعيه مشكوراً. ثم يقول تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) الإسراء - 20 .
ولإلقاء أضواء على بعض الأفكار الهامة التي تساهم في إعطاء الفعالية للإنسان نذكُر بعضاً منها على سبيل المثال:
لقد مرَّ زمن لم يكن الناس يفطنون فيه إلى أن أحداث التاريخ تخضع لتوجيه الإنسان، بل كانوا يرون أن هذه الأحداث لا دخل للبشر في حدوثها، وإنما يسيَّرها مسيِّر السَّموات والأرض. وهذه هي النظرية الأولى في التاريخ، وهي النظرية القدريَّة التي لا ترى أثراً لجهد البشر في صنع التاريخ..
ولكن استخدام القوى الواعية للبشر في تأمُّل أحداث الكون، أبرزَ شيئاً فشيئاً إمكانية تدخُّل جهد البشر في صنع الأحداث وتسريعها أو إيقافها، بعد أن عرفوا أسبابها. وكان إدراك البشر لهذا الجانب بطيئاً، ولم يتوضح مرة واحدة، ولم ينتشر سريعاً بين الناس، كما لا يزال معظم البشر ينظرون إليه بشيء من الغموض وعدم الوضوح..
ومن القواعد المقررة التي لا يمكن أن يلاحظها كل واحد:
أنه إذا أردت إبطال جهد الإنسان وإيقافه في أي عمل، ما عليك إلا أن تقنعه بعدم جدوى هذا العمل، فبمجرد أن يقتنع الإنسان بعدم جدوى عمله يكِفُّ عن النشاط ويتوقَّف عن العمل.
يشبه ارتباط القضاء والقدر بحياة الانسان بالضغط على الزناد حيث يفلت من يد الإنسان التحكُّم بالقذيفة بعد الضغط على الزِّناد. ولكن ليس معنى هذا أنه لم يكن له اختيار في الضغط على الزناد. فمن هذا الجانب، يمكن أن يُنظر إلى التاريخ على أساس حتمي وقدري وهذا النظر يُغفِل تدخُّل جهد الإنسان في أحداث هذه النتائج الحتمية.
والخلاصة: إن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم. ولكن حدوث النتائج حتْم. فبهذا الشكل صار الإنسان مسيطراً على الحتم، كما أن الإنسان حين يَغفُل عن سنن الله، فإن سنن الله لا تغفل أن تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل. وحينئذ لن يتمكن الإنسان أن يرى للتاريخ أسباباً، وإنما يرى أحداثاً حتميَّة، لا دخل لجهد الإنسان فيها. فمن هذه النظرة تنشأ القدريَّة..
يقول سيد قطب في كتابه هذا الدين في نفس الموضوع:
« هناك حقيقة أولية عن طبيعة هذا الديِّن وطريقة عمله في حياة البشر . حقيقة أولية بسيطة مع بساطتها كثيراً ما تنسى ، أو لا تدرك ابتداء . فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين : حقيقته الذاتية وواقعه التاريخي ، حاضره ومستقبله كذلك .
إن البعض ينتظر من هذا الدين ما دام منزلاً من عند الله ، أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ! ودون أي اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية ، ولواقعهم المادي في أي مرحلة من مراحل نموِّهم ، وفي أية بيئة من بيئاتهم .
وحين لا يرون أنَّه يعمل بهذه الطريقة ، وحين يرون أن الطَّاقة البشرية المحدودة ، والواقع المادي للحياة الإنسانية ، يتفاعلان معه فيتأثران به - في فترات - تأثراً واضحاً ، على حين أنهما في فترات أخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه …. وحين يرون هذا فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقَّعونها ، أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني وواقعيته ، أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً .
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كُّلها من خطأ واحد أساسي : هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته أو نسيان هذه الحقيقة البسيطة الأولية » ..
وقال في مكان آخر مبيناً أهمية هذه الحقيقة :
« والمعرفة بهذه الحقيقة ذات أهمية قصوى فهي تعطي البشرية أملاً قوياً …. فهي صورة من شأنها أن تزيد من ثقة البشرية بنفسها …. أن تبلغ ذلك المستوى الإنساني الرفيع الذي بلغته مرة في تاريخها فهي لم تبلغه بمعجزة خارقة لا تكرر. وإنما بَلغَته في ظلِّ منهج من طبيعته أن يتحقق بالجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية».
ولما خفيت هذه الحقيقة ، وهي (دور الإنسان في صناعة التاريخ) في رسالات السماء كما سبق أن ذكره ذلك الكاتب بمرارة وأسى. فعند عدم إدراك هذه الحقيقة البسيطة الأولية أو نسيانها عند من يؤمنون برسالات السماء، ضلَّ من ضلّ لأنه مع تقدم العلوم ظهرت هذه الحقيقة - حقيقة (تدخل الجهد البشري في صناعة التاريخ) - لقوم حدث لهم ردُّ فعل نفوري من المتديِّنين، فكتبوا في هذا الموضوع وكأنهم كشفوا شيئاً جديداً امتازوا به عن سائر الخلق وسمُّوا هذه النظرية بأسماء مختلفة كالفلسفة الوضعية، والمادية الجدلية، والمادية التاريخية، والديالكتيكية، ..
كما هاجموا المتديِّنين ورسالات السماء وكل النظم المثالية، واعتبروها معطلة لأثر جهد الإنسان في أحداث التاريخ. ولقد ابدؤوا في هذا وأعادوا كثيراً. وعظمت البليَّة بذلك فظن كثير من الناس الذين لم يدركوا هذه الحقيقة في طبيعة الدِّين أو نسوها، أن العلم والوعي وتقدير جهد الإنسان ومكانته في صنع الأحداث، كل ذلك مخصوص بأولئك الذين نظروا إلى التاريخ النظرة المادية.
وفهم أحداث التاريخ بهذا الشكل الذي يتدخل فيه جهد البشر، يساهم مساهمة كبيرة في إيجاد شرط أساسي من شروط الفعالية؛ وذلك لأن هذه النظرة لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل تتدخل في تكييف سلوك الإنسان أمام الأحداث وتضع الإنسان في المكان المناسب له في هذا الكون. وتشعره بكرامته حيث سخر الله له هذا الكون.
ويقول جلال الدِّين الرومي في هذا المقام مخاطباً الإنسان : ( إن خدمتك مفروضة على جميع الكائنات . هل يجرؤ أحد أن يساوم هذا الإنسان الغالي ويُنِّي نفسه بشرائه : يا مَن مِنْ عبيدة العقل والحكمة والمقدرة لا محلَّ للمساومة فقد تمت الصفقة : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ) التوبة - 111 فإن الشيء لا يباع مرتين ) .
إن مِن شروط الفعالية حدوثَ شعور للإنسان أنه يملك شيئاً أن يقدمه للآخرين ، وهم بحاجة إليه . فحدوث هذا الشعور عنده يكون سبباً لفعاليته ونشاطه . ويمكن أن يتضح ذلك إذا نظرنا إلى العكس : وهو أن الإنسان إذا لم يكن عنده شيء يقدمه للآخرين ، أو على الأقل يُشعره بمساهمته معهم ، يصيبه الانطواء والخمول ، بل قد يبلغ به الأمر إلى درجة أن يفقد كل مبرر لوجوده مما يؤدي إلى الانتحار أحياناً . ويمكن أن يلاحظ ذلك في أدق الأعمال وأيسرها . وكما ذكرنا سابقاً يلاحظ في الإنسان الذي يحسن شيئاً يحتاج إليه الآخرون حيث يُشعره ذلك بقيمته . ويجعله فعالاً في بيانه وتطبيقه . هذا في المستوى الفردي والعمل البسيط ، ويمكن أن يرى ذلك في مستوى المجتمعات والحضارات الكبرى . فإن المسلمين حين انطلقوا بأقصى توتر في الفعالية شهده العالم كانوا يشعرون بأن الله ابتعثهم ليقدموا للعالم حقيقة هذا الدين الذي يكرم الإنسان ويخرجه من ذل العبودية . فكان أصغر جندي في عسكرهم يشعر بهذه المهمة حين كان يقول معبراً عن مهمته بأنه مستنفر لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .
وأيضا هذا يذكرنا بشعور عامل التنظيفات في وكالة ناسا بأهمية عمله بقوله: أنا أرسل الناس إلى الفضاء.
بينما المسلم الآن لا يدرك أنه يملك شيئاً يقدمه للعالم ، أو العالم بحاجة إليه ، ولن يتأتَّى للمسلم هذا الشعور إلا إذا عرف جيداً مشكلات العالم وما يعانيه ، وحقيقة ما يمكن أن يقدمه الإسلام لهذا العالم ..
وحتى العالم الغربي لم تحدث لديه الفعالية ، إلا بعد أن شعر أنه موضع عناية القدر ، وأنه يملك ما لا يملكه أحد من الناس من العلم والفهم للحياة .
إذا توفر إدراك أثر جهد الإنسان والمبرر لأمة من الأمم ، يكون ذلك سبباً في ارتفاع درجة الفعالية التي تشيع في جميع أفراد الأمة من صغيرها إلى كبيرها ، ومن رجالها إلى نسائها ، فإن هذه المفاهيم كالغيث إبَّان الربيع ، يساهم في تحريك النباتات والبراعم في كل مكان ..
من الحقائق الثَّابتة أن الإنسان في حركته ، يسعى لخير يجلبه أو لشر يدفعه . وكلٌّ منهما في درجات متفاوتة : فقد يكون الخير الذي يطلبه أكلة يصيبها أو نصراً كبيراً يحرزه في معركة حاسمة ، أو ( جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتَّقين ) ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذنٌ سمعت . وقد يكون الشر الذي يحذر منه أكلة تفوته أو معركة كبرى يخسرها أو ( ناراً وقودها الناس والحجارة ) ..
وفعالية الإنسان وتوتُّره ، يكونان في أقصى مداهما كلما كان يقينه صادقاً فيما يطلبه ، وكلما كان ما يطلبه عزيزاً ، وما يهرب منه شراً كبيراً ، وهذا ينطبق على كل عمل يقوم به الإنسان من العناية التي يبذلها الطالب في أداء وظيفته المدرسية ، إلى المصابرة والمرابطة في القتال . ولهذا لما سوى الله بين الناس في الرغائب التي يطلبونها والمخاوف التي يهربون منها ميَّز المؤمنين بأن رغائبهم ومخاوفهم تتعلق بأشياء لا يملكها غير المؤمنين . فقال تعالى : ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ) النساء - 104 .
هذا التوازن نادر في المسلمين ، وهذا ما يجعل المسلمين لا فعالية عندهم لأن منهم من لا يشعر بالخطر ، ومنهم من بلغ به الشعور بالخطر إلى درجة اليأس بحيث يظن أنه لم تعد هناك فائدة من الحركة ، كما لا يشعرون بالفرص التي تفوتهم وهم قابعون ينظرون إلى الأحداث بعيون التماسيح الغافية ، كأن الأحداث لا تعنيهم ، وكأن إرادتهم لا صلة لها بتوجيه الأحداث .
لقد أحسن في التعبير عن هذا المعنى مالك الجزائري حين قال :
« إن صنع التاريخ يبدأ من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى الكلمة والواجبات الخاصة بكل يوم بكل ساعة ، بكل لحظة لا في معناها المعقد كما يعقِّده أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة يعطلون بها التاريخ بدعوى أنهم ينتظرون المعجزات والساعات الخطيرة » .
وهذا ما ينبهنا الله تعالى إليه في قوله : ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) يونس - 61 .
تقول الكاتبة بعد أن قدمت لنا هذه الأفكار العميقة والرائعة والتي استطعنا أن نستنبط منها قوانين وسنن نسير على هديها:
(هذه الأفكار التي سجلتها هنا ، تكونت لدي أثناء حياة موجهة مليئة بالخبرات والبحوث ، عشتها مع أخي فسجَّلتها لاعتقادي أن هذه الأفكار تُفيد وتساهم في إنارة الطريق لمستقبل الحركة الإسلامية .
وهنا اقدم شكري وتقديري لأخي ، وأقدم هذه الخبرة التي عشتها وتأثَّرت بها ، وكانت سبباً في تكيُّف حياتي ، وأختار جانياً واحداً من هذه النواحي التي أشعر أنها أثرت في نفسي ، لما أرى له من الأهمية ، وهو الموقف الذي اتخذه أخي بالنسبة لي . والأمل الذي كان يعلقه عليّ في أن أكون مسلمة فعالة . وكان يتخذ لهذا الهدف الذي وضعه في نفسه فيما يتعلق بي وسائل كثيرة وإيحاءات مختلفة أقدرها كل التقدير . إنه كان حين يفكر في عمله ودعوته كان أول ما يرسم وأول ما يخطط دوري ومهمتي في هذه الأعمال وما علي أن أحققه : إنه كان ينظر إلي كأني الشطر الثاني من عمله وهذا ما جعله يصبر سنين عدة يعمل في أن يهيئ ما يؤهل لتلك المهمة .
وأعتبر هذا الأمل الذي كان في نفسه هو نسمة الحياة الأولى التي تنعش كياني حيث لم تكن تهب مثل هذه النسمة فيما أعلم في مجتمعنا على نظيراتي وهذه مشكلة أساسية في مجتمعنا . فمن المعلوم أن هناك مساهمة كبيرة في منجزات الفرد من جراء ما يتوقع الآخرون من هذا الفرد أن ينجزه . فإن هذا الأمل الذي يعلق عليه يكون أكبر عامل ومساهم في تحقيق ذلك . وكم من إمكانات تظل خامدة ميتة حيث لا يعلق أحد عليها أملاً ولا توقعاً فتظل مطمورة في عالم الغيب لا يمر عليها من يقدرها . وليس من السهولة أن تنمو البذور إذا لم يحط بها الدفء وماء الحياة بل اعتقد أن سبب هذه العطالة أو الكلالة (الضعف) التي يعيشها مجتمعنا والتي تبرز كأوضح ما يكون في جانب النساء هو : (الجو الثقافي) الذي يحدد مهمة النساء في حدود معينة بحيث لا يتوقع الأخ أو الأب أو الزوج منها غير تلك المهمة المعينة المحدودة . وأن لا يخطر في بالها هي غير ذلك فكأن وظائفها كلها حصرت واختزلت في إمكانية محددة ، وهذه المهمة المعينة يمكن أن نوجزها في كلمة واحدة هي : (مهمة المحافظة على بقاء النوع لا ترقية النوع).
وأرى من الضروري حتى تعطي هذه الملاحظة ثمرتها أن أفرق بين أمرين حيث إن كثيراً من المسلمين يخلطون بينهما . وحين أقول إن العطالة التي تحيط بمجتمعنا ولا سيما في جانبه النسائي لا أقول : إن الإسلام هو الذي يعطي هذه العطالة أو يسببها . ولكن لا أخشى من صاحب رأي له اعتبار أن ينقض رأيي في أن المسلمين هم الذين يقومون بهذه العطالة بشعور منهم أو دون شعور على مختلف مستوياتهم ، ومن رأى غلواً في كلامي هذا وبخساً لحق المسلمين فإنا هو يعبر بذلك عما في نفسه مما يأمله في أن يكون عليه المسلمون في نظره ، لا ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في الواقع .
هذا وإن كنت أشرت إلى جوانب نقص في المسلمين فإن ما في المسلمين ليس هذا فقط بل إن هذا الجانب من النقص بدأ يدخل في حيزِّ الشعور فصار ذلك باعثاً لأن يراجع بعضهم مواقفه فيتأملها . وهذا أول خطوة في تغيير الإنسان لنظرته وسلوكه . والآن نرى تباشير ذلك في براعم آخذة في النمو والتفتح مما يدل على سريان حياة جديدة . ونرى أيضاً نسمة الحياة في الأمل الذي نعلقه في ناشئتنا المتطلعة إلى حياة أكرم لتضع لنفسها أهدافاً أسمى وتطلعات أقوم متخلصة من أوزار الانحطاط ومتأكدة من ثبات خطواتها في المستقبل .
ولتحقيق هذا المستقبل لا بد من عقبات تبلغ بالقلوب الحناجر ، ولكن الذي يثبت المسلم على ذلك آيات الكتاب الكريم والوعد الحق الذي يدعم المؤمنين والمؤمنات ويبارك سعيهم .
( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى … ) . آل عمران - 194 .
المرجع /مدونة صوتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق