الرضاعة الطبيعية ضرورة إسلامية
انتشرت في السنوات الأخيرة طريقة تغذية الأطفال صناعياً، باللبن الصناعي، كضرورة لاشتغال المرأة، والألبان الصناعية مهما كانت كاملة من الناحية الغذائية، فإنها لا تنافس إرضاع لبن الأم، ذلك لأن إرضاع الأم لطفلها بالإضافة إلى أنه تغذية عضوية (فسيولوجية)، هو تغذية نفسية، فالطفل في أمس الحاجة إلى الأمومة الوثيقة الاتصال به، أى أنه في حاجة إلى الحب والدفء العاطفي والاتصال اللمسي بدرجة لا تقل عن التغذية الجسمية التي يستخلصها من الرضعة، ذلك لأن هذه العلاقة تزود الرضيع بالأمن والطمأنينة عـلاوة على الحب والدفء العاطفي.. ومعنى ذلك أنه يجب أن تكون الأم وطفلها وحدة من الوجهة النفسية، وهذه الوحدة تتحقق أثناء الرضاعة. إن الرضاعة وهز الطفل ومداعبته، كلها حاجات نفسية وضرورية لإشباع أعمق الحاجات النفسية عنده، ولكن ليس معنى ذلك أنه كلما بكى الطفل يجب على الأم أن تعطيه ثديها، كما يحدث في كثير من الحالات، أو أن تضع (البزازة) بصفة مستمرة في فـمه، أو تعطيه حلمة زجاجة اللبن، إن كانت تغذيته صناعية، أو تلجأ إلى هزه بصفة شبه مستمرة، أو إلى حمله على كتفها.. فالطفل يبكي عندما يجوع، أو عندما يشعر بالضيق نتيجة البلل من تبوله، أو الاتساخ نتيجة التبـرز، أو نتيجة لوجـود ألم أو مغص، أو احتكاك يضايق جلده الرقيق، فلو أن الأم عنيت بنظافته، وصحته، وتغذيته في مواعيد منتظمة، لما بكى إلا نادراً.. وفي حالة بكائه بدون سبب، يجب تركه، فيقلع من تلقاء نفسه عن البكاء. لكن - ويا للأسف - نرى بعض الأمـهات يلجأن إلى حمل الطفل أو وضع بزازة في فمه بصفة شبه مستمرة، فيعودنه عادات غير مستحبة، إذ يتعود أن يبكي لتحمله أمه أو لتضع له البزازة وهو غير جائع، ومن ثم تكون الأم قد أساءت للطفل بتكوين عادات ضارة مرتبطة بعملية التغذية، يصعب إقلاع الطفل عنها. وقد تضطر الأم إلى استخدام أساليب أكثر ضرراً في دفعه للإقلاع عن هذه العادات المستهجنة، كأن تضع له في طرف البزازة « مُراًّ »، أي مادة شديدة المرارة، تجعل الطفل يترك مص البزازة ويلجأ إلى مص أصابعـه، وما إلى غير ذلك من الأساليب التعويضية غير السوية. وقد تؤجل بعض الأمهات فـطام الطفـل إلى سن متأخرة، أو تلجأ بعضهن إلى عملية الفطام فجأة بأسلوب قاس كاسـتعمال « المُر» أو وضع مواد في اللبن لم يتعودها الطفل، مما يحدث له صدمة نفسية شديدة تؤدي إلى ظهور الأزمات الانفعالية في طفولته البريئة، في حين أن الفطام يجب أن يكون متدرجاً من اللبن - ذلك السائل الذي تعوده بما له من خواص معينة ثابتة من حيث درجة الحلاوة، والسيولة، والحرارة - إلى أطعمة نصف سائلة ثم إلى أطعمة صلبة عندما تظهر الأسنان.. فإن مراعاة التدرج في عملية الفطام لها أهمية خاصة في الصحة النفسية للطفل، ذلك لأهمية التغذية عند الطفل، فهي ما لديه للاتصال بالعالم الخارجي، ولإشباع رغباته النفسية وحاجاته الجسمية. كل هذه المشاكل، وغيرها، تسببها الرضاعة الصناعية في غالب الأحيان، أما الرضاعة الطبيعية فليس لها مثل تلك المشاكل ، ونذكر أنه في عام 1999م، كان لنا حظ حضور المؤتمر السنوي لجمعية طب وجراحة الأطفال البريطانية، الذي عقد في تلك المرة بمدينة يوركشير.. ولأطباء الأطفال البريطانيين تقليد قديم، هو أن يجتمع جميع أطباء وجراحي الأطفال، و جراحي التجميل وعلاج التشوهات، كل عام في إحدى عواصم المقاطعات البريطانية، لاستعراض حصاد السنة، ومتابعة الأبحاث الجارية في مختلف ما وراء البحار، من دول \\\\\\\"الكمنولث\\\\\\\"، وكان ما جذب انتباهنا نتائج أحد الأبحاث التي أجراها طبيب إنجليزي في نيجيريا.. ومن المعروف أن البعثات الطبية الموفدة إلى البلاد النامية، لها اهتمامات أخرى غير البحوث الطبية، وأهمها التبشير أو التنصير وخلافه. وقد جاء في هذه الدراسة ما يفيد بأن السيدات في نيجيريا يحافظن على الرضاعة الطبيعية وتغذية أطفالهن لمدة عامين باللبن الآدمي، وأشارت الدراسـة إلى أن الرضع الذين لا يفطمون قبل سنتين من العمر، يتمتعـون بصحة جيدة، ويقاومون الكثير من أمراض الطفولة. ثم تبعه بحث آخر قادم من بنجلاديش، وثالث من سيلان، وهي جميعاً تشير إلى أن الفطام في هذه البلدان، لا يقل عن عامين، وأنه لولا استمرار الرضاعة الطبيعية طوال هذه الفترة، لما قاوم الأطفال المساكين أمراض سوء التغذية، والأوبئة الشائعة، في هذه البلدان الفقيرة. وعندما أعطيت الكلمة لنا، أوضحنا أن هذه البلدان التي أجريت فيها تلك البحوث، تتمتع بالعقيدة الإسلامية، حيث إن القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، يوصـيان باستمرارية الرضاعة، والحضانة، بمعرفة الأم، لمدة لا تقل عن عامين، وهو نفس الأسلوب المتبع عندنا في بلداننا العربية وعالمنا الإسلامي، ولولا التمسك بهذه العادة الإسلامية الحميدة، ما تبقى على ظهر الأرض من أطفالنا أحد ممن يعيشون، في أسوأ الظروف الاقتصادية، والاجتماعية. حينئذ أحسسنا بإعجاب المئات من الباحثين بهذا التشريع، الحكيم الواقعي، وإجماع المناقشين على أن الأسلوب الإسلامي في تغذية الطفل وحضانته، هو أنسب الأساليب في التربية.. وكم كان إحساسنا بالزهو والفخار، عندما نص على ذلك في توصيات المؤتمر. وفي واقع الأمر فإن تغذية وتنميته الطفل عقلياً ونفسياً وبدنياً، كانت دائماً شغلنا الشاغل، منذ أمد بعيد، خاصة عندما نلمس أن غالبية مرضى سوء التغذية والنـزلات المعوية، والأمراض الأخرى، هم من بين الأطفال الذين حرموا لبن أمهاتهم لسبب أو لآخر.. حينـئذ بدأ موضوع الرضاعة الطبيعيـة، يفرض نفسه علينا في جـميع مناقشاتنا ومؤتمراتنا، فما من مرض وبيل، ناقشته الأبحاث، إلا واكتشفنا أن سببه الرئيس هو استعمال الألبان الصناعـية، أو البديلـة عن لبن الأم، وما من غذاء بديل حاولنا أن نُقيِّم مزاياه، إلا وجدناه يداني أو يقارب لبن الأم ولا يماثله، وما من مشـكلة، إلا اكتشفنا أن الرضاعة من ثدي الأم، فيها جزء كبير من الحل، إن لم يكن الحل كله. فمشكلة الحساسية عند الأطفال كالإكزيما، والربو، علاجها في رضاعة ثدي الأم.. مشكلة سوء التغذية والهزال والتخلف العقلي، علاجها في ثدي الأم، مشكلة الإسهال والجفاف، والوقاية منهما، في لبن الأم.. مشكلة الحميات، وما يتبعها من مضاعفات، علاجها في لبن الأم.. مشكلة أمراض التمثيل الغذائي، والعيوب والتشوهات الخلقية، لا نظير للبن الأم في تغذية الأطفال المصابين بها.. مشكلة عيوب القلب الخلقية، وهبوط القلب أيضاً، لا مثيل للبن الأم في مثل هذه الحالات.. وغير ذلك الكثير والكثير... هكذا أصبح موضوع الرضاعة الطبيعية، هو القاسم المشترك الأعظم لندوات ومؤتمرات أطباء الأطفال والولادة وصحة الطفل والأم والصحة العامة. إن الله - سبحانه وتعالى - منذ أن خلق الأرض ومن عليها، يسَّر لبني البشر إحدى فضائله، وهي الرضاعة الطبيعية من ثدي الأمهات، التي تعتبر غذاءً كاملاً، ميسراً، وحامياً للرضيع في خطواته الأولى في الحياة.. وقد جاء وقت من الأوقات، سادت فيه بدعة الألبان البديلة للبن الأم، وانتشرت الدعاية لها، حتى انحسرت الرضاعة الطبيعية أو كادت، وروج المروجون لهذه الألبان الصناعية، بأنها تحتوي على مزيد من الفيتامينات، وأنها تعفى الأم من التقيد الزمني للرضاعة ، وغير ذلك من الأسباب الواهية، لكن ما لبث أن عاد الاتجاه إلى الرضاعة المثلى «الطبيعية». فالرضاعة الطبيعية، هي من فطرة الله التي فطر الناس عليها ،لحكم جليلة؛ وهي من أوامره، وبها يتحقق الخير للطفل وللوالدين ولغيرهم، إذ أن الله لا يأمر إلا بالحق والصواب، والملتزم بأوامر الله يناله الخير، ويشهد منافع عديدة تعود عليه نتيجة التزامه بها، أما من يعرض عنها، فإنه يحرم نفسه الخير الذي أعده الله له؛ والعاقل هو من يتحرى دائماً أن تكون تصرفاته مع الحق والصواب، إذ أنهما يقودان إلى صراط الله المستقيم الذي يؤدي إلى النجاة، في الحياة الدنيا والآخرة. وقد أسند الله تعالى الرضاعة إلى الوالدة ، لأنها أقدر من غيرها على ذلك ، فقال تعالى: (( وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ..)) (البقرة:233)، فقولـه تعالى: ((يُرْضِعْنَ)) خبر، بمعنى الأمر على الوجوب، لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن، لأسباب صحية خاصة بهن، أو بالطفل، كما لو كان الرضاع يسبب ضرراً للأم، أو للصغير، أو كان لبنها قليلاً لا يكفيه. آراء الفقهاء في مدى وجوب الإرضاع: اختلفت آراء الفقهاء في مدى وجوب الإرضاع على الأم، وحقها في تقاضي أجراً عنه.. وسنعرض لذلك بشيء من الإيجاز فيما يلي : يتفق العلماء على أن الرضاع يجب على الأم ديانة، لأن الله تعالى أمر الوالدات بإرضاع أولادهن في قوله تعالى: (( وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ))، وإن كان الأمر جاء في صورة الخبر، إلا أنه خبر في معنى الأمر، فعلى الأم أن تقوم بإرضـاع طفلها وبخاصة «اللبأ» أو «المسمار» وهو أول اللبن النازل بعد الولادة، لأن الولد لا يقـوى ولا تشتد بنيته، إلا به، ولتواتر أهل المعرفة والعلم على أهمية «اللبأ» الصحية، والغذائية للطفل، كما أنه على الأم - شرعاً - أن ترضع طفلها، بعد ذلك، من لبنها الذي جعله الله لطفلها غذاءً مفيداً، أفضل من أي غذاء آخر، فإن امتنعت عن إرضاع الطـفل، رغم مقدرتـها على ذلك - وثبوت عدم تضررها، أو تضرر الطفل من إرضاعه بلبنها - فإنها تكون آثمة، أمام الله سبحانه وتعالى، يحاسبها على امتناعها. واخـتلف الفقهاء في مدى وجوب الرضاعة قضاءً على الأم، وفقاً لما يلي: الرأى الأول: بعض الفقهاء يرى - كالمالكية - أن الأم إذا كانت زوجة لأبي الصغير فإنه يجب عليها أن ترضع ولدها بلا أجر، إلا إذا كانت عالية القدر، من طبقةٍ نساؤها لا يرضعن أولادهن بأنفسهن، فلا يجب عليها إرضاعه، إلا إذا تعينت، وتتعين الأم في عدة حـالات هي: إذا رفض الرضاع من غير أمه، وإذا لم يوجـد للأب أو الطفل مال لاستئجار مرضعة له، وإذا لم يوجد من يرضعه بغير أجر، وإذا لم يوجد من يرضعـه بأجر مـع وجود المال مـع الأب أو مع الصغير. الرأى الثاني: وبعض الفقهاء -كالحنفية والشافعية والحنابلة - يرى أن الرضاعة ليست واجبة قضاء على الأم، إن كانت زوجة لأبي الصغير، لأن الرضاعة، كما أنها حق للأب وللطفل، فإنها حق للأم، ولا تجبر الأم على استيفاء حقها، وبخاصة أن للأم من الشفقـة والعطف على طفـلها ما يجعل امتناعها دليلاً على عدم قدرتها، وتضررها صحياً من الرضاعة، وإجبارها على الإرضاع، قد يسبب لها ضرراً، والله نـهى عن الإضرار بالأم بسبب الولد، لقوله تعالى: ((لاَ تُضَارَّ وٰلِدَةٌ بِوَلَدِهَا)) (البقرة:233)، ولا تجبر الأم على إرضاع ولدها قضاء، إلا في حال الضرورة، أي إذا تعينت. أما إذا كانت الأم أجنبية عن أبي الصغير، فلا تجبر على الرضاعة، لأن أجرة الإرضاع ليست أجرة خالصة، أي ليست عوضاً خالصاً، بل هي مؤونة ونفقة تجب على الأب، فلتلك الأم الأجنبية أن تحصل على أجر الرضاعة من الأب، إن قامت بها. ويلاحظ أن الأم، لم تُلزم بالإرضاع قضاء في كل الأحوال ، لأن الضرر قد يكون أمراً داخلياً غير ملحوظ، والغالب أن الأم لا تمتنع عن الإرضاع - مع وجود شفقتها وحنوها- إلا لأسباب قوية، تبرر موقفها، كما أن الرضاعة قد لا تكون واجبة شرعاً على الأم، إذا كانت تسبب ضرراً لها، أو للطفل، لمرضها مرضاً معدياً، أو تحملها صحياً للرضاعة لمرضها ببعض الأمراض كالقلب مثلاً. وفي الحالات السابقة، يكون الامتناع عن الرضاعة لأسباب طارئة تبرره، إنما يبقى حكم الأصل على ما هو عليه وفقاً لما سبق بيانه، وقد تكلم القرطبي عن الرضاعة، وهل هي حق للأم أم عليها، ومتى يكون ذلك، فقال: « إن اللفظ محتمل، لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها، لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن، كما قال تعالى: (( وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ )) (البقرة:233)، ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم، إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه، فعرفها ألا ترضـع، وذلك كالشـرط، وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب، وهو عليها إذا عدم ، لاختصاصها به». ويجب تمكين الأم من إرضاع ابنها، ما دامت ترغب في ذلك، سواء كانت زوجة لأبي الصغير، أم ممتدة منه، أم أجنبية عنه، رعاية لحقها في إرضاع ولدها، «لأنها أكثر الناس شفقة به وحنواً عليه، ولأنه جزء منها، ومن حقها المحافظة على جزئها، ولأن في ذلك رعاية لمصلحة الصغير، فإن من مصلحته أن ترضعه أمه، لأن لبنها أصلح له عادة». مدة الرضاعة: من الأهمية بمكان، تحـديد الفترة التي ينبغي للأم أن ترضـع خـلالها طفلها، وقد تمت الإشارة إلى هذه الفترة، في قوله تعالى: ((وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ)) (البقرة:233)، ويقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «.. فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ » (أخرجه البخاري) أي أن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، حيث يكون الرضيع طفلاً، يسد اللبن جوعته.. وتحديد العامين في الآية الكريمة، وإن لم يكن تحديد إيجاب، لقوله تعالى: (( لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ)) ، وأنه علق إتمام الرضاعة بإرادة الوالدين - كما في قوله تعالى: (( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)) (البقرة:233)، إلا أن المقصود من التحديد الذي ورد في الآية المشار إليها سالفاً، هو قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فإن أراد الأب أن يفطـمه قبل الحوليـن، ولم ترض الأم، لم يكن له ذلك، وكذلك الحال، لو كان على العكس، أي أرادت الأم الفطام، ورفض الأب، أما إذا اتفقا على أن يفطما الطفل قبل تمام الحولين، فلهما ذلك. فالفطام في أقل من حولين لا يجوز، إلا عند رضا الوالدين، وعند المشاورة مع أرباب التجارب، وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاعة، فتحاول الفطام، والأب أيضاً قد يمل من إعطاء الأجر على الرضاع فيحاول الفطام، دفعاً لذلك، لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد، لغرض النفس، ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد، فاتفاق الكل، يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره البتة.. فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير، كم شَرطَ في جواز فطامه من الشرائط، دفعاً للمضار عنه، ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط، لم يصرح بالإذن بل قال: (( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)) وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفاً، كانت رحمة الله معه أكثر، وعنايته به أشد. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال عن التي تضع لستة أشهر: «أنها ترضع حولين كاملين، فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً»، وحجة ابن عباس رضي الله عنهما، قوله تعالى: (( وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً)) (الأحقاف:15)، وأن هذه الآية دلت على أن زمان هاتين الحالتين، هو هذا القدر من الزمان، وقدره ثلاثون شهراً، فكلما ازداد في مدة إحدى الحالتين، انتقص من مدة الحالة الأخرى، وقال آخرون: الحولان هما المدة اللازمة ، لإتمام رضاع كل مولود. وقد أكد ابن كثير أيضاً، أهمية اتفاق رأى الوالدين على فطام الطفل، فقال: «فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل حولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك.. فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخـر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك، من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالـدين في تربية طفلهما، و أرشـدهما إلى ما يصلحهما، ويصلحه». وقد أشار القرطبي إلى أن مدة الرضاع التي ذكرت في القرآن الكريم، في قوله تعالى: ((حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ))، ليس المقصود بها حولاً كاملاً وبعض حول آخر، لأن القائل قد يقول: «أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولاً وبعض حول آخر، قال تعالى: ((فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ )) (البقرة:203)، وإنما يتعجل في يوم ، وبعض الثاني». ونود أن نذكر، أن الأمر الذي ورد بالقرآن الكريـم، للوالدات بإرضاع أولادهن، جاء غير قاطع بالوجـوب، رحمـة من الله تـعالى بالأم والطفل، مراعاة لبعض العوارض التي قد تـطرأ على صحـة الأم، أو ظروفها، مما سنشير إليه فيما بعد، كمرضها، إذ أن الرضاع يكون في هذه الحالة - وغيرها - مضراً بالأم و بالطفل، أو غير متيسر، لذا فإن الأمر بالإرضاع لو جاء على سبيل الوجوب، في كل الحالات، لكان فيه مشقة وضرر للأم، وللطفل، واكتساب معصية إن لم يتم إرضاع الطفل، لمخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن في الرضاعة الطبيعية حسن اقتداء، فقد تكررت الإشارة إلى الرضاعة في القرآن الكريم، تصريحاً أو تلميحاً، في آيات عديدة، منها قوله تعالى: - (( وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ )) (البقرة:233). - (( حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ وَأَخَوٰتُكُمْ وَعَمَّـٰتُكُمْ وَخَـٰلَـٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلاْخِ وَبَنَاتُ ٱلاْخْتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوٰتُكُم مّنَ ٱلرَّضَاعَةِ..)) (النساء:23). - ((يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ..)) (الحج:2). - ((وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ..)) ، (( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ.. )) (القصص:7، 12). - ((وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ)) (لقمان:14). - ((وَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً)) (الأحقاف:15). - ((فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ)) (الطلاق:6). وتشير هذه الآيات، فيما يتعلق بالرضاعة، إلى عدة أمور، منها: مدة الرضاعة، والرضاعة من الأم، والمحرمات من الرضاعة، إلى غير ذلك.. ولنا في قصة سيدنا موسى عليه السلام، العبرة والقدوة الحسنة، فعند ولادته أوحى الله إلى أمه بإرضاعه عليه السلام وعندما ألقته في اليم، بشرها الله بأنه سيرده إليها، لترضعه، وقد حرم الله عليه المراضع، فرفض موسى عليه السلام أن يرضع من أية مرضعة، وقد يسر الله بعد ذلك الأسباب التي أدت إلى عودة أم موسى إليه لترضعه، ويتحقق وعد الله سبحانه وتعالى، فإن قوله الحق، وهو علام الغيوب. فقصة موسى عليه السلام، وغيرها من القصص التي وردت في القرآن الكريم، فيها كثير من العبر، وتدعو للتأمل والتفكر والاقتداء، والمراد من ذكر هذه القصص، هو أن يعتبر بها العاقل الذي يتفكر وينتفع بمعرفته، وقد قال الله تعالى عن ذلك: (( لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (يوسف:111). بديل الأم.. مرضعة أخرى: باستقراء آيات القرآن الكريم، نجد أنها تشير إلى الأم عند ورود موضوع الرضاعة، وإلى الارتباط الكبير بين الأم، ومن أرضعته، وأن الرضاعة ليست مجرد إطعام الطفل، أو تغذيته، خلال فترة معينة من عمره، إنما الرضاعة ارتباط قوي بين المرضـعة ومن أرضعته، وأنـها إن لم تكن أمه الحقيقية فإنها تعتبر كأمه، تحرم عليه هي وأصـولها وفروعها، لأنه يحرم من الرضـاع، ما يحرم من النسب لقول الرسـولصلى الله عليه وسلم: «..إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ »(أخرجه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ» (أخرجه مسلم). فالحمل هو الفترة التي أتم خلالها الله تعالى خلق الطفل، وفترة الرضاعة، هي المدة التي لا يستطيع الطفل خلالها أن يعتمد على نفسه في المأكل، ولا يناسبه إلا اللبن الذي خلقه الله له ليشتد عوده وينمو جسمه. ولئن امتنعت الأم عن إرضاع الولد، لكونها أجنبية عن أبيه، أو لعدم دفع أجرة الرضاعة لها عند طلبها، أو لغير ذلك من الأسباب، فقد ذكر القرآن، البديل عندئذ، وهو أن ترضعه امرأة أخرى، وذلك في قوله تعالى: (( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ )) (الطلاق:6). فالآية الكريمة، تضمنت النص على البديل لإرضاع الطفل، عند إرضاع الأم له، وهو توجـيه وإشـارة إلى ما ينبغي عمله، لكل من يتدبر القرآن، ويتفكر فيما يحتويه من معان جليلة ومفيدة. فالعلم يؤكد كل يوم أنه لا بديل للطفل أفضل من اللبن الذي خلقه الله له، لما يتضمنه من عناصر تحقق له النمو الجسمي الأمثل، فضلاً عن الراحة والاستقرار النفسي، التي يشعر بهما الطفل عند إرضاعه، علاوة على الطعم اللذيذ، ودرجة الحرارة المناسبة.
المرجع / كتاب الطفولة ومسؤولية بناء المستقبل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق